منذ زمن ليس ببعيد، تعودت أن استيقظ على صوت المنبه في الساعة الخامسة والنصف صباحاً من كل يوم. وما أن أستعد للخروج حتى أرى أطفالي الثلاثة واقفين بجانب الباب لأخذ جرعتهم المعهودة من القبلات والأحضان. عندها، أتجه إلى عملي في عيادة صندوق الأمم المتحدة للسكان للصحة الإنجابية. المسافة ليست هينة فالطريق لمخيم الزعتري لللاجئين السوريين تستغرق ساعة ونصف، غير أنني أعتبرها فترة راحة لتصفية ذهني من مشاغل الحياة. عندما أصل للعيادة ترحب بي كل من الممرضات والقابلات الرائعات بابتسامة يتبعها "صباح الخير دكتورة إيمان!" أرى الأطفال في مساحة الانتظار يركضون وراء بعضهم بعضاً ريثما أكشف على أمهاتهم. تتوزع ساعات عملي الثماني ما بين فحص النساء الحوامل وتوليدهن، والاطمئنان على صحتهن وصحة مواليدهن. وبعد ذلك، أرجع لبيتي بعد قضاء ساعة ونصف أخرى على الطريق، لأجد أطفالي الذين اشتقت إليهم ينتظرونني بفارغ الصبر، وأنا كذلك أكون في قمة اشتياقي لهم! مشهد روتيني يتكرر بشكل يومي، لكنني أحبه وتعودت عليه. إلا أن هذا المشهد سرعان ما تغير بعد أن أصبح خطر انتشار فيروس الكورونا أمراً واقعاً. عندها، كلما دخلت العيادة، كنت أرى القابلات بلا كلل أو ملل يعطين المراجعات جلسات توعية متتالية عن هذا المرض وكيف أن عدم أخذ الاحتياطات المناسبة سيؤدي إلى انتقاله من شخص لآخر. لكن بعد فترة بسيطة اتخذت الحكومة الأردنية قراراً بمنع التجول. الأمر الذي أوقف أغلب القطاعات غير الأساسية، وقيد حركة التنقل ما بين المحافظات. إلا أنه طُلب مني أن أستمر بعملي على أساس مناوبات لمدة 72 ساعة بدلاً من دوامي اليومي. وفي أول يوم عمل لي بعد تطبيق حظر التجول، أوقفتنا نقاط تفتيش عديدة، اضطررت معها أن أخرج بطاقة النقابة في كل مرة لأعبر. وعندما وصلت أخيراً للعيادة، كان المشهد مختلفاً. كانت المريضات ملتزمات بمسافة أمان كافية عن بعضهن، بينما تبدلت ضحكات الأطفال بالصمت المُطبق. طُلب مني أن أرتدي بدلة الحماية الشخصية قبل أن أمارس عملي. وافقت بلا تردد لأحمي نفسي والمريضات من أي مكروه.
فكوني طبيبة في الخطوط الأمامية، أنا معرضة لخطر انتقال الفيروس أكثر من غيري لأنني أتعامل مع عشرات الحالات والأشخاص يومياً؛ وكإجراء وقائي وللتقليل من الضرر المحتمل تقلص الكادر الطبي إلى النصف. وهكذا، كان لابد من مضاعفة العمل بنصف الطاقم المتبقي، لنعمل على مدار الساعة بدون أن نمس بجودة خدمات الصحة الإنجابية وخدمات تنظيم الأسرة التي نقدمها للمريضات. فعادة ما يتم غض الطرف عنها في أوقات الأزمات.
ليس من السهل أبداً أن تكوني قوية خاصة وأنك تعرفين جيداً أن عدوك ماكر وخبيث، إلا أنني أخذت على نفسي عهداً أن أراعي مصلحة المريضات لأنهن يثقن بي ويرين العالم من خلال عيني؛ فلا بد وأن أكون صلبة وقوية.
الساعة الآن التاسعة صباحاً، وحان موعد تسليم المناوبة للفريق الثاني بعد عمل متواصل استمر 72 ساعة. أنا منهكة ولا أستطيع سوى التفكير بالرجوع إلى المنزل، حينها استوقفتني أم جديدة ولدتها قبل ساعات قليلة، قالت لي:" أتعرفين أن الأمور الصغيرة هي ما يعلق بالذاكرة، فهذه التفاصيل تحدث فرقاً كبيراً، وقد لاحظت كم الأشياء الصغيرة الكثيرة التي بذلتها من أجلي، لذا أنا ممتنة لأنك تهتمين بالمريضات ". كلماتها رفعت معنوياتي.
بدت لي طريق العودة أطول مما كانت عليه، وكأن نقاط التفتيش زادت! إلا أنني وصلت بالنهاية، وما أن صعدت الدرج حتى سمعت أصوات أطفالي يتسابقون ليفتحوا لي الباب لأحتضنهم كالعادة بعد غيبة أطول من المعتاد. تمالكت نفسي وخاطبتهم بحشرجة في صوتي: "ماما هنا يا أحبائي، اشتقت لكم كثيراً، لكنني لا أستطيع أن أحضنكم لأنني يجب أن أعقم نفسي أولاً". عندها، فتحوا لي الباب واصطفوا وراء أبيهم يسألونه إذا كنت سأعديهم، ونظرات الريبة على وجوههم. ماذا فعلت بنا يا فيروس كورونا، لقد قتلت أجمل اللحظات على قلب الأم!
لأنني أعمل في الخطوط الأمامية لابد وأن أحافظ على صحة أطفالي بارتداء قناع الوجه الواقي في البيت طوال الوقت وأن أبتعد عنهم مسافة متر تقريباً. بدون أحضان.. بدون عناق.. بدون قبلات.
وبعد فترة، رن المنبه الساعة الخامسة والنصف إيذانا بفجر يوم جديد، أستعد للخروج ولكن هذه المرة أسلم على أطفالي من بعيد. أحرص على القدوم إلى العيادة وممارسة عملي هناك لأضمن استمرارية خدمات الصحة الإنجابية في أحلك الظروف وأصعبها. ينتابني القلق أحيانا، لكن مع ولادة كل طفل سليم، أرى في عينيه النور تتشتت مخاوفي، بل تعطيني نظراته جرعة كبيرة من الأمل تجعلني على يقين أننا سنجتاز هذه المرحلة بـأمان ونرجع لحياتنا الطبيعية كما كنا في السابق.
مع محبتي،
*د. إيمان
*الدكتورة إيمان، أم وطبيبة نسائية تعمل في الخطوط الأمامية في مستشفى صندوق الأمم المتحدة للسكان/ الأردن للصحة الإنجابية في مخيم الزعتري. في ظل الاستجابة لفيروس كورونا.
تعد جمعية العون الصحي الأردني الدولية الشريك المنفذ لصندوق الأمم المتحدة للسكان مكتب الأردن والذي يعمل على إدامة خدمات الصحة الجنسية والإنجابية في عيادة مخيم الزعتري للصحة الإنجابية.
وتستمر هذه الخدمات بمنحة كريمة من منظمة مكتب المفوضية الأوروبية للمساعدات الإنسانية والحماية المدنية (الإيكو) الذي يدعم بدوره كل من العيادة، والأماكن الآمنة للنساء والفتيات في مخيم الزعتري